الأحد، 24 نوفمبر 2013

محاججة المفجر الإنتحاري ووهم المعرفة المطلقة


نحن نعيش في عالم يعاني من عدم تأقلمه مع التغير السريع في عالم التكنولوجيا والتي أصابتنا بما يسمى اليوم بالـ infobesity أو بتعبير أصح إنتاجنا لمعلومات أكبر بكثير مما نستطيع التعامل معه وبتسارع مضطرد .. مما فتح المجال أمام الكثير من الناس للوصول للمعلومات وتغيير مواقفهم .. باختصار هنا أتكلم عن بزوغ نجم الإلحاد والتزايد المتسارع لتحول الشباب إليه بعيدا عن أديانهم مما دفع أنصار الأديان إلى الخوض في مفاهيم ودفاعات لم تكن موجودة من ذي قبل ولم تذكر في الفلسفة القديمة أو أصول المحاججات الفاسدة ومنها أخص بالذكر محاججة واجهتني بضع مرات من خلال محاوراتي مع المدافعين عن الأديان وأطلقت عليها أسم “ محاججة المفجر الإنتحاري “

محاججة المفجر الإنتحاري

تعتمد هذه المحاججة كليا على إستخدام نزاهة الموقف العلمي وتواضعه أمام ما يجهل ضده متجاهلة أو جاهلة بالمبادء التي يقوم عليها المنهج العلمي تماما ليس بهدف إقناع الخصم بموقف المحاجج بل بهدف الوصول إلى أنه فقط مخطئ دون الوصول لأي نتيجة كنوع من الإنتصار الدونكيشوتي وهي تقوم على الشكل التالي :
تبدأ بسؤال الطرف الآخر ( المتبني للمنهج العلمي ) سؤال عن مدى يقينه من الواقع على شكل :

“ هل أنت متأكد أنك لا يمكن أن تكون مخطء حول ما تعتقده عن الوجود ؟”
هنا على الإنسان النزيه والصادق مع نفسه أن يقول بصدق :
نعم .. يمكن أن أكون مخطء فنحن لا يمكننا الجزم بشيئ إذا ما كنا نتكلم بشكل علمي.
وهنا يقوم المحاجج بتحويل ( لا نستطيع الجزم ) إلى ( نحن لا نعرف شيئ )
وتكون نتيجة المحاجج التالية : 
- لا يمكننا التأكد من وجودنا أو وجود أي شيئ بشكل مؤكد .. فكل شيئ يمكن أن يكون وهم أو خطأ حتى الواقع والوجود وعليه فإن موقفك ( من الدين أو الإله أو غيره ) هو موقف خاطئ لأنك لا يمكن أن تكون متأكدا منه .

قد يبدو للوهلة الأولى أن في المحاججة شيئ من الحقيقة وأنها مقنعة .. بالفعل .. إذا كنا لا نستطيع تأكيد وجودنا ما المانع من أن يكون كل شيئ مجرد وهم أو حلم أو شيئ لا نستطيع حتى تخيله وأن كل ما نعرّفه على أنه واقع هو لا شيئ وبالتالي لا نستطيع الحديث عن الحقيقة إلا من باب التعصب الأعمى أو الغرور .

لقد سميت هذه المحاججة باسم (محاججة المفجر الإنتحاري) كونها تنسف “ظاهريا فقط” محاججة الخصم كما أنها بنفس الوقت تنسف أي محاججة أو موقف يقدمها مقدم المحاججة , فهي عندما تنفي الواقع فإنها تنفي كل شيئ ناتج عن أو في هذا الواقع بما في ذالك المفاهيم والإفتراضات الدينية التي يتبناها مقدم المحاججة .
ولكن عليكم أن تدركو أن هذه النتيجة ظاهرية فقط بسبب تجاهل الأسس التي يبنى عليها المنهج العلمي والتي لا تقلل من قيمته وسأقوم بشرح لماذا .

ما يجهله الكثيرون أن المنهج العلمي يقوم على ثلاث إفتراضات أساسية
وهي إفتراضات غير قابلة للإختبار أو التأكيد . وهي كالتالي
1- إفتراض أن الكون أو الوجود موجود
2- إفتراض أننا نستطيع إكتساب معرفة عن هذا الكون والوجود وتكوين صورة عقلية له
3- أن الصورة العقلية التي لها قدرة تنبؤية أفضل من الصورة العقلية التي ليس لها قدرات تنبؤية


هذه الإفتراضات الثلاث التي لا يمكن إختبارها أو التأكد منها تجريبيا هي أساس المنهج العلمي كله وهي مصدر تواضع ونزاهة من يتبنى المنهج العلمي و مما يستحق التنويه له هو أنها أقل قدر ممكن من الإفتراضات الممكن تبنيها بدون الوقوع في تناقضات داخلية .

الصورة العقلية للواقع والواقع .

قد يتسائل أحدكم .. وماذا تعني بالصورة العقلية للواقع .. وهل تختلف عن الواقع ؟
هنا أقول أننا ككائنات عاقلة لا نتعامل مع الواقع بشكل مباشر بل نقوم ببناء صورة عقلية أو موديل للوجود في عقلنا ومن ثم نتعامل معها .
عندما ننظر لجسم ما ( ولنقل أنها كرة ) نحن لا نتعامل عقليا مع الكرة بل نتعامل مع الصورة الموجودة في عقلنا عن الكرة من مفاهيم وأفكار وصور وكلما كانت الصورة العقلية مطابقة للواقع كلما كانت ذات قدرة تنبؤية أكبر . عمليا لا يمكن للصورة العقلية أن تكون مطابقة 100% للواقع ففي المثال السابق لا يمكن أن تكون الكرة واقعيا كرة مطلقة كما في الصورة العقلية لها ..  لأننا هنا نهمل أن الذرات المكونة لها كنقاط سيكون بينها زوايا وبالتالي تنتفي الكروية على المقياس الذري , ولكن الصورة العقلية قريبة جدا من الواقع لدرجة أنها تؤخذ على أنها حقيقة تجاوزا . ومن هنا نميز أهمية الإفتراض الثالث حيث أننا لا نتعامل مع حقائق عقليا بل مع صور لهذا الواقع في عقولنا وبالتالي أقرب هذه الصور إلى الواقع هي أصلحها .. ولا يوجد طريقة أخرى لاختبار تقارب الصورة مع الواقع أفضل من إختبار الصورة تنبؤيا .

عندما وضع أول تصور لجزيئ الـ DNA  عام 1953 على يد جيمس واتسون و فرانسيس كريك و موريس ولكنز لم تكن نظريتهم مبنية على ملاحظة أو قياس مباشر بل عن طريق إختبار الصورة أو الموديل . اليوم إستطعنا بواسطة المجاهر الإلكترونية الدقيقة من تصوير ورؤية هذا الجزيئ الخلاب ولكن عندما وضعت النظرية وضعت على شكل تصور ومن ثم تم إختبار هذا التصور ومدى تطابقه مع الواقع عن طريق وضع تنبؤات إن صحت أثناء التجربة فإنها تثبت الصورة النظرية أو الموديل الذي وضعوه .
نستطيع قول المثل بالنسبة للصورة الذرية أو الموديل الذري الذي وضعه الفيزيائي نيلز بور عام 1913 والذي يعرف اليوم بموديل بور الذري حيث أنه عندما تم تقديمه لم يكن باستطاعة أحد مشاهدة الذرة أو قياسها ولكن لأن طريقة المنهج العلمي غير محدودة فقط بحواسنا الخمس نستطيع رسم صورة للواقع ومن ثم إختبار مدى قدراتها التنبؤية وبالتالي إختبار الصورة أو الموديل .. فالتي يكون لها قدرات تنبؤية أكبر نتبناها كحقيقة وصورة أكثر تطابقا للواقع .
ومن هنا نأتي بالإفتراض الثالث الذي يقول بأن الصورة العقلية التي لها قدرة تنبؤية أفضل من الصورة العقلية التي ليس لها قدرات تنبؤية .

إذن أين نحن من هذا كله وكيف يمكننا القبول بنمهج قائم على إفتراضات .؟
الجواب هو أنك لا يمكن أن تعيش حياة إدراكية بدون وضع الإفتراضات .. الإفتراضات هي الطريقة التي نستخدمها لرسم الصورة العقلية التي نستخدمها في إدراكنا للوجود ولكن هذا لا يعني أننا نستطيع إفتراض ما نشاء وقتما نشاء وعلينا أن نحرص على أن يكون لدينا أقل قدر ممكن من الإفتراضات والمتمثلة بالثلاثة المذكورة أعلاه .

الغريب أن المدافعين عن الموقف الديني يجدون أن وجود هذه الإفتراضات يطعن في قيمة المنهج العلمي متناسين أن كل ما لديهم هو إفتراضات إضافية غير مبررة وغير ذات قدرة تنبؤية تعتمد أساسا على هذه الإفتراضات الثلاث ..
بل والأغرب أنهم يظهرون غرورا كبيرا في التعامل مع إفتراضاتهم ويصفونها بأنها حقائق مطلقة .. هم يعرفون أن الله موجود .. ويعرفون بالتأكيد أن دينهم هو الدين الصحيح .. ولا يمكن أبدا أبدا أن يكونو مخطئين أو حتى يعترفوا بإمكانية قدرتهم على الخطأ . وبعد ذالك يأتي هؤلاء أنفسهم ليكلمونا عن النزاهة والأخلاقية في طرح المعلومات . 
وهنا أسأل .. متى قدمت أي إدعائات أو إفتراضات غيبية أو دينية أي قدرة تنبؤية أو نجحت في تأكيد نفسها تجريبيا ؟
وهل نحن في حاجة لوضع إفتراضات أساسية جديدة لا مبرر لوجودها ولا تخدم أي ضرورة ؟
هل قدم التفكير الغيبي والديني أي شيئ مقابل ما قدمه المنهج العلمي من حضارة وتكنولوجيا ومعارف ؟

المنهج العلمي يدرك أن تبنيه لهذه الإفتراضات الثلاث الأساسية دون القدرة على التأكد منها تجريبيا هو نوعا ما نقطة سوداء ضرورية . وأعتقد أن كل المتبنين للمنهج العلمي يجب أن يصلوا إلى السلام والتقبل بما يخص تبني هذه الإفتراضات , لأنه بدون إفتراضها لن يكون هناك علم أو وجود أو إدراك .. لن يكون هناك شيئ وسنهيم في وجود لسنا حتى متأكدين من وجوده ودون إمكانية لوجود العلم والمعرفة . وبرأيي أن إدراك هذا الواقع هو الذي يمنح العلم نزاهته وتواضعه وعدم تبنيه للمطلقيات في الأحكام .

ليست هناك تعليقات: